يعود التجار
بالتبر والرقيق،وفي هذاالموضوع ذكر الحميري عن تكرور قائلا:"وإليها يسافر
أهل المغرب الأقصى بالصوف والنحاس والخرز ويخرجون منها بالتبر
والخدم"(12).وأهم بضاعة تحملها القوافل التجارية من بلاد المغرب إلى بلاد
السودان هي الملح،حيث يقول ابن حوقل"وربما بلغ الحمل الملح في دواخل بلد
السودان وأقاصيه مابين مائتين إلى ثلاثمائة دينار"(13).وقد ذكر البكري
غرائب صحراء المغرب الأقصى،فأشار إلى معدن الملح الموجود بين سجلماسة
وأودغست،وقال:"ومن هذا المعدن يتجهز بالملح إلى سجلماسة وغانة
وسائرالسودان والعمل فيه متصل والتجار إليه متسايرون،وله غلة
عظيمة"(14).واستمرت أهمية تجارة الملح مع بلاد السودان إلى عهد ابن بطوطة
(704ـ 779هـ ) حيث ذكر تغازي التي تبعد عن سجلماسة بخمسة وعشرين يوما في
اتجاه الجنوب نحو بلاد السودان ،يسكنها عبيد مسوفة وهم الذين يشتغلون في
مقاطع الملح بتغازي،وأضاف الرحالة المغربي قائلا:"وقرية تغازي على حقارتها
يتعامل فيها بالقناطير المقنطرة من التبر"(15).
ولإبراز أهمية تجارة
الذهب والرقيق في تطور وازدهار المراكز التجارية المغربية،فإن ابن حوقل
يبين استقرار الفئات التجارية بسجلماسة بقوله:"...وسكنها أهل العراق وتجار
البصرة والكوفة وتجاربغداد الذين كانوا يقطعون ذلك الطريق،فهم وأولادهم
وتجارتهم دائرة ومفردتهم دائمة،وقوافلهم غير منقطعة إلى أرباح عظيمة
وفوائد جسيمة،ونعم سابغة،ولقد رأيت صكا كتب بدين على محمد بن أبي سعدون
بأودغست،وشهد عليه العدول باشنين وأربعين ألف دينار..."(16).وقد تعرض
البكري في وصفه لسكان سجلماسة قائلا:"...ومن الغرائب أن الذهب جزاف عدد
بلا وزن،والكراث يتبايعونه وزنا وعددا..."(17).وفي وصفه لمدينة أودغست وهي
مركز تجاري معروف بتجارة الذهب والرقيق والملح يقول:"...ويتجهز إلى أودغست
بالنحاس المصنوع،وبثياب مصبغة بالحمرة والزرقة مجنحة،ويجلب منهاالعنبر
المخلوق الجيد لقرب البحر المحيط منا والذهب الإبريز الخالص خيوطا
مفتولة،وذهب أودغست أجود ذهب أهل الأرض وأصحه..."(18).ويذكر البكري أيضا
أنه "كان للرجل الواحد من سكانها ألف خادم وأكثر"(19).إنه من الواضح أن
هاتين البضاعتين تمثلان ميزة أساسية من ميزات الحياة التجارية المغربية
خلال القرنين الثالث والرابع الهجري،فقد يلاحظ دورهما الحاسم في الحياة
الاقتصادية للمراكز التجارية المغربية ،ومن هنا أصبحت العلاقات التجارية
بين المغرب وبلاد السودان تعكس ظاهرة اقتصادية جديدة في حياة المغرب خلال
هذا العصر(20.
وربما السؤال الذي يطرح نفسه ما أهمية تجارة الرقيق في
تجارة العالم الاسلامي عامة والمغرب الاسلامي خاصة؟إن الرقيق متوفر في
المجتمع الاسلامي وتعددت مصادر استيراده،وأصبح يمثل ظاهرة اجتماعية بارزة
في حياة المدن والريف معا إلى درجة جعلت بعض الدارسين للحضارة العربية
الاسلامية يصفونها بأنها حضارة رقيق،لاتختلف عن الحضارات القديمة وعن
الحضارة البيزنطية على وجه الخصوص.إن هذا الوصف لايخلو من مبالغة،بحيث
هناك فرق شاسع بين ظاهرة العبيد في المجتمع الاسلامي وفي مجتمعات الحضارات
القديمة،ولكن هذا لايمنع من التأكيد على حقيقة تاريخية تتلخص في أن الرق
يمثل ظاهرة أساسية في تاريخ الاقتصاد الاسلامي،وربما الحاجات الاقتصادية
للمجتمع الاسلامي الجديد قد طغت على ما جاءت به الشريعة الاسلامية لإعطاء
هذه الفئة الاجتماعية حقوقها،وتيسير انتقالها من حالة العبودية إلى حالة
الحرية،ويبدو أن حاجة العالم الاسلامي إلى العبيد ازدادت بعد انتهاء
الفتوحات وبداية عصر الازدهار العمراني،وظهور العملة الاسلامية باعتبارها
عملة قوية.يقوم على أساسها التبادل التجاري العالمي ،فبحث التجار عن مناطق
تموين العالم الاسلامي بهذه البضاعة الهامة،فاستوردوا الرقيق من بلاد
الترك باسيا الوسطى،ومن بلاد الصقالبة،ومن مناطق مختلفة منها مناطق قديمة
معروفة بالنوبة والحبشة وسواحل إفريقية الشرقية،ثم ظهر مصدر جديد وغني وهو
بلاد السودان،وكان له دور بارو في تايخ التجارة المغربية،وخاصة أن بلاد
السودان أصبحت تشكل المصدر الأول لتجارة الرقيق ابتداء من القرن الرابع
الهجري(21).ويبدوأن العبيد أصبحوا يشكلون القوة المنتجة الأساسية في جميع
ميادين النشاط الاقتصادي،فكانوا هم العاملون في المناطق الزراعية
الكبرى،وفي الواحات الصحراوية المغربية،وفي المعادن وفي حراسة القوافل
التجارية وفي البناء والصناعات التي نشأت في مراكز العمران،وفي الأعمال
المنزلية،ولذا فإن ملكية عدد وافر منهم لم تصبح مقتصرة على الأمراء والأسر
الحاكمة،بل أصبحت الفئات الثرية تملك عددا من العبيد ولاسيما فئة
التجار،ولاغرابة من العدد الكبير من العبيد،لأن تجارة القوافل كانت في
حاجة إلى عمال وحراس،ويلاحظ في الحياة السياسية والعسكرية في المجتمع
الاسلامي أن الرق العسكري احتل مكانة بارزة ابتداء من القرن الثالث الهجري
حيث بلغ عدد العبيد في الفسطاط في العهد الطولوني حوالي أربع وعشرين ألف
عبد تركي،وأربعين ألف عبد سوداني(22).
وأصبح اتخاذ الحرس الخاص من عبيد
السودان أمرا شائعا لدى حكام المغرب ابتداء من القرن الثاني الهجري،فقد
اتخذ ابراهيم بن الأغلب مؤسس إمارة بني الأغلب سنة184هـ /808م الحرس الخاص
من العبيد السود(23)،وكذلك اتخذ عبيدالله الفاطمي بعد بيعته سنة297هـ
/910م العبيد من السودان والروم حرسا له(24).أما البضاعة الثانية التي
كانت تمثل المنشط الهام للتجارة الاسلامية،والعصب المحرك لديناميكية
التطور العالمي في العصر الوسيط،والأساسية في تجارة بلاد المغرب فهي
الذهب(25).فلامناص إذن من وضع تدفق ذهب السودان إلى المشرق
الاسلامي،ومنطقة البحرالمتوسط بالخصوص في اطار العناصر الجديدة التي
أدخلها الحكم الاسلامي على الحياة الاقتصادية في المناطق التي كانت خاضعة
للفرس والروم.كانت عملتان أساسيتان متداولتين في العالم القديم إلى غاية
القرن الثامن الميلادي وهما الدرهم الساساني والدينار البيزنطي،ولقد استمر
التعامل بهمافي العصر الاسلامي الأول،ولكن حدث هنالك تحولا جذريا ابتداء
من نهاية القرن الأول الهجري أي بداية الثامن الميلادي حيث سخرت الذخائر
الذهبية التي كانت مخزونة لفائدة الدورة الاقتصادية العالمية في مناطق
النفوذ الفارسي والبيزنطي،وأصبحت في ظل الحكم الاسلامي تمثل وحدة جغرافية
واقتصادية(26).ثم طرأ حدث جديدابتداء من القرن الثالث الهجري التاسع
الميلادي،لايقل شأنا عن ذلك التحول وهو اكتشاف العالم الاسلامي لمصدر جديد
لتوريد هذا المعدن الثمين بلاد السودان(27).
وسيبقى ذهب السودان طوال
ستة قرون يغذي مصانع ضرب العملة الذهبية في بلاد المغرب ومنطقة البحر
المتوسط،ويدعم حركة التبادل التجاري بين بلاد السودان والمغرب من جهة،وبين
المغرب والمشرق الاسلامي ومنطقة البحر المتوسط من جهة ثانية.وقد جعل
التحول والاكتشاف الجديد من المسلمين خلال حقب طويلة سادة الذهب في العالم
على حد تعبير م.لومبارد،ومكنا العالم الاسلامي من بلوغ درجة تفوق اقتصادي
تجاه الشرق والغرب معا بفضل امتلاكه لثروات ذهبية هائلة،ولما تتمتع به
العملة الاسلامية من اعتراف العالمي(28).إن دور المغرب الاسلامي واضح في
هذه السياسة الاقتصادية والنقدية التي سمحت للمجتمع الاسلامي ببلوغ التفوق
الاقتصادي خلال عصور الازدهار العمراني،والهدف من ابراز هذه القكرة هو ربط
أهمية تجارة الذهب والرقيق كميزة من مميزات تاريخ التجارة المغربية في
العصر الوسيط(29)،وكذلك ماكان يربط المغرب الاسلامي ببلاد السودان من
علاقات تجارية.لقد كان للصبغة القبلية والمذهبية دور بارز في الصراع
السياسي والعسكري الذي عاشه المغرب الاسلامي.